١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦بقلم أحمد دعدوش المصدر: ديوان العرب
إن مشكلة اختزال المرأة، لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من فلسفة التسليع التي باتت تحكم الغرب اليوم، فبعد أن أخرج علم الاجتماع الغربي مفهوم التشيؤ "reification" والذي صاغه المفكر الهنغاري جورج لوكاتش من سياقه الاقتصادي إلى النطاق الاجتماعي (الإنثروبولوجي) كمفهوم قادر على الحكم على طبيعة العلاقات الإنسانية، بات من الشائع في الأدبيات الاجتماعية الغربية النظر إلى طبيعة هذه العلاقات على أنها مجرد صورة مجسدة لحركة السلع المادية في الأسواق، وبالتالي تم اختزال منظومة الحراك الاجتماعي التي كانت تشكل في الماضي - بدءا من محاولة سقراط وأفلاطون لفهم الإنسان وانتهاء بأعمال مفكري عصر النهضة- ضربا من التوق نحو سيادة الإنسان على الطبيعة، إلى ذلك التنميط الساذج المنطوي على إسقاط مفاهيم السوق وحركة السلع المادي على كافة تعقيدات الحياة الإنسانية بجانبيها الروحي والجسدي.
وبناء على ذلك، فقد استساغ مفكرو هذه المرحلة، وهم خليط من التكنوقراط الجدد المولعين بثورة التكنولوجيا، فكرة تسليع مظاهر الحياة بكافة أشكالها على أنها الشكل الأخير للتطور الحضاري، وذلك في سياق ديالكتيكي (جدلي) لا يخلو من الحتمية "فرانسيس فوكوياما" وبدأت بذلك حركة التأسيس لهذا البناء الفكري والتي لا تحتاج إلى أكثر من إشاعة النظام الاستهلاكي في أبسط أشكاله، وهو كما نرى نظام فكري لن يتطلب من المتلقي أي خلفية ثقافية لاستيعابه، إذ أنه يخاطب الغرائز بدلا من العقول، ويسعى لإعادة هيكلة المجتمع برمته بدءا بالعامة الذين لا يبدون أي شكل من أشكال الممانعة وانتهاء بخاصة المثقفين المستعدين للتبرير بأدوات فلسفة الحرية الشخصية والليبرالية، فهم جميعا قابلون للتلقي بشكل أو بآخر، وتحت وطأة كثافة البث الإعلامي الملغوم، وحساسية الوتر المستهدف.
لقد نجح النظام الرأسمالي المتضخم في آخر أطواره، وبعد أن تمكن من تحييد معظم الأنظمة والقوى المنافسة- وتأجيل البروز المحتمل للبعض الآخر على الأقل، في إسقاط مفاهيمه المادية على كافة مظاهر التفكير والسلوك اليومي لدى الإنسان المعاصر. ففي هذا العالم المتسارع يجد الإنسان نفسه مجرد عنصر تافه من "ماكينة" الإنتاج المادي العالمية، وهو محكوم بالانخراط في شبكة علاقاتها المعقدة دون أن يكون له أي خيار، إذ تملك هذه الآلة الضخمة كافة أساليب القمع والإغراء على السواء "سياسة العصا والجزرة"، مما يدفع بالإنسان إلى الشعور بالإحباط وعدم جدوى أي محاولة للخلاص، فضلا عن لذة الاستسلام لفيض المغريات الحسية الذي يوفره الانصياع وبذل الطاعة.
وفي هذا النظام المعولم، يتحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء وفق مبدأ المنفعة، إذ يسعى كل فرد للحصول على السلعة التي يحتاجها مقابل التنازل عن السلعة التي يمكنه بذلها، وهنا تصبح مقولات الفن والجمال والأخلاق والحب والدين مجرد مفاهيم مجردة يمكن تجسيدها عبر سلع قابلة للتبادل الآلي البحت، فيجري تحوير الفن إلى متعة بصرية، والجمال والحب إلى لذة حسية، والأخلاق إلى ضوابط تحكم النظام الاجتماعي لتأمين قدر مقبول من الأمن الفردي، والدين إلى جرعة نفسية معدلة للتخلص من تداعيات السعي اللاهث لتحصيل القدر الأكبر من اللذة- تصديقا لمقولة أوغست كونت "الدين ليس أفيون الشعوب بل فيتامين الضعفاء". وفي هذا السياق، فإن المرأة - من حيث هي أحد عناصر هذا النظام المجتمعي الهائل- ليست أكثر من سلعة تتحدد قيمتها عبر قدرتها على الإشباع، فهي إذن تسعى جاهدة للانخراط في معمعة هذا الصراع للحصول على حصتها من اللذة أولا، وللحفاظ على وجودها ككيان ذي قيمة في هذا النظام ثانيا.
وبناء على المقاييس التي يتم من خلالها تنميط المرأة مسبقا، فإنها محكومة بالانصياع لقانون السوق الذي يحكم عليها بتقديم نفسها كسلعة، ومحاولة تثمين هذه السلعة بكافة الوسائل التي توفر لها قيمة تبادلية مقبولة، وذلك عبر استنزاف إنسانيتها التي يتم هدرها قبل دخولها إلى هذا السوق، ثم "إعادة تصنيعها" في قوالب جديدة قابلة للاستهلاك، وتلميعها بكافة عوامل الإبهار لجذب أنظار المستهلكين.
إن هذه الصورة البشعة من الاستعباد الإنساني قد بلغت حدا يتجاوز أكثر أشكال الانحطاط الأخلاقي الذي عرفته البشرية منذ عصور الرق والإقطاعية، إذ تكمن خطورة هذا النظام في هيمنة هذه الصورة النمطية على العقل الجمعي لمعظم المجتمعات كعقيدة راسخة يؤمن بها الجميع، أو يقر بحتمية الاستسلام لها على أقل تقدير، مما يجعل من المقاومة ضربا من المستحيل، فضلا عن تقديمها للرأي العام على أنها الصورة الفضلى لما يمكن أن يكون عليه الكيان البشري، وأنها خلاصة للتجربة الإنسانية على مر العصور، وذلك عبر ضخ كميات هائلة من سلع الرفاه، ودغدغة الغرائز بفيض لا ينتهي من أشكال اللذة الحسية التي تتجدد كل يوم، مما يهدد بتحويل الإنسان إلى كائن شهواني لا يروم إلا قضاء المزيد من الشهوة بشتى الوسائل.
وبما أن الإنسان الذي أكرمه الخالق بعمارة الأرض وسخر له أسبابها، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا الانحطاط الفكري والأخلاقي الذي انتهى إليه، فإنه هو المسؤول أيضا عن تغيير هذا الواقع، والبحث عن السبيل الذي ينجو به من كماشة الحتمية التي أبدعها، وليكن ذلك من منطلق المسلـَمة التي لا مفر منها: وهي أنك أيها الإنسان لن تعيش إلا عمرا واحدا.. فانظر ما أنت فاعل فيه!
إن مشكلة اختزال المرأة، لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من فلسفة التسليع التي باتت تحكم الغرب اليوم، فبعد أن أخرج علم الاجتماع الغربي مفهوم التشيؤ "reification" والذي صاغه المفكر الهنغاري جورج لوكاتش من سياقه الاقتصادي إلى النطاق الاجتماعي (الإنثروبولوجي) كمفهوم قادر على الحكم على طبيعة العلاقات الإنسانية، بات من الشائع في الأدبيات الاجتماعية الغربية النظر إلى طبيعة هذه العلاقات على أنها مجرد صورة مجسدة لحركة السلع المادية في الأسواق، وبالتالي تم اختزال منظومة الحراك الاجتماعي التي كانت تشكل في الماضي - بدءا من محاولة سقراط وأفلاطون لفهم الإنسان وانتهاء بأعمال مفكري عصر النهضة- ضربا من التوق نحو سيادة الإنسان على الطبيعة، إلى ذلك التنميط الساذج المنطوي على إسقاط مفاهيم السوق وحركة السلع المادي على كافة تعقيدات الحياة الإنسانية بجانبيها الروحي والجسدي.
وبناء على ذلك، فقد استساغ مفكرو هذه المرحلة، وهم خليط من التكنوقراط الجدد المولعين بثورة التكنولوجيا، فكرة تسليع مظاهر الحياة بكافة أشكالها على أنها الشكل الأخير للتطور الحضاري، وذلك في سياق ديالكتيكي (جدلي) لا يخلو من الحتمية "فرانسيس فوكوياما" وبدأت بذلك حركة التأسيس لهذا البناء الفكري والتي لا تحتاج إلى أكثر من إشاعة النظام الاستهلاكي في أبسط أشكاله، وهو كما نرى نظام فكري لن يتطلب من المتلقي أي خلفية ثقافية لاستيعابه، إذ أنه يخاطب الغرائز بدلا من العقول، ويسعى لإعادة هيكلة المجتمع برمته بدءا بالعامة الذين لا يبدون أي شكل من أشكال الممانعة وانتهاء بخاصة المثقفين المستعدين للتبرير بأدوات فلسفة الحرية الشخصية والليبرالية، فهم جميعا قابلون للتلقي بشكل أو بآخر، وتحت وطأة كثافة البث الإعلامي الملغوم، وحساسية الوتر المستهدف.
لقد نجح النظام الرأسمالي المتضخم في آخر أطواره، وبعد أن تمكن من تحييد معظم الأنظمة والقوى المنافسة- وتأجيل البروز المحتمل للبعض الآخر على الأقل، في إسقاط مفاهيمه المادية على كافة مظاهر التفكير والسلوك اليومي لدى الإنسان المعاصر. ففي هذا العالم المتسارع يجد الإنسان نفسه مجرد عنصر تافه من "ماكينة" الإنتاج المادي العالمية، وهو محكوم بالانخراط في شبكة علاقاتها المعقدة دون أن يكون له أي خيار، إذ تملك هذه الآلة الضخمة كافة أساليب القمع والإغراء على السواء "سياسة العصا والجزرة"، مما يدفع بالإنسان إلى الشعور بالإحباط وعدم جدوى أي محاولة للخلاص، فضلا عن لذة الاستسلام لفيض المغريات الحسية الذي يوفره الانصياع وبذل الطاعة.
وفي هذا النظام المعولم، يتحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء وفق مبدأ المنفعة، إذ يسعى كل فرد للحصول على السلعة التي يحتاجها مقابل التنازل عن السلعة التي يمكنه بذلها، وهنا تصبح مقولات الفن والجمال والأخلاق والحب والدين مجرد مفاهيم مجردة يمكن تجسيدها عبر سلع قابلة للتبادل الآلي البحت، فيجري تحوير الفن إلى متعة بصرية، والجمال والحب إلى لذة حسية، والأخلاق إلى ضوابط تحكم النظام الاجتماعي لتأمين قدر مقبول من الأمن الفردي، والدين إلى جرعة نفسية معدلة للتخلص من تداعيات السعي اللاهث لتحصيل القدر الأكبر من اللذة- تصديقا لمقولة أوغست كونت "الدين ليس أفيون الشعوب بل فيتامين الضعفاء". وفي هذا السياق، فإن المرأة - من حيث هي أحد عناصر هذا النظام المجتمعي الهائل- ليست أكثر من سلعة تتحدد قيمتها عبر قدرتها على الإشباع، فهي إذن تسعى جاهدة للانخراط في معمعة هذا الصراع للحصول على حصتها من اللذة أولا، وللحفاظ على وجودها ككيان ذي قيمة في هذا النظام ثانيا.
وبناء على المقاييس التي يتم من خلالها تنميط المرأة مسبقا، فإنها محكومة بالانصياع لقانون السوق الذي يحكم عليها بتقديم نفسها كسلعة، ومحاولة تثمين هذه السلعة بكافة الوسائل التي توفر لها قيمة تبادلية مقبولة، وذلك عبر استنزاف إنسانيتها التي يتم هدرها قبل دخولها إلى هذا السوق، ثم "إعادة تصنيعها" في قوالب جديدة قابلة للاستهلاك، وتلميعها بكافة عوامل الإبهار لجذب أنظار المستهلكين.
إن هذه الصورة البشعة من الاستعباد الإنساني قد بلغت حدا يتجاوز أكثر أشكال الانحطاط الأخلاقي الذي عرفته البشرية منذ عصور الرق والإقطاعية، إذ تكمن خطورة هذا النظام في هيمنة هذه الصورة النمطية على العقل الجمعي لمعظم المجتمعات كعقيدة راسخة يؤمن بها الجميع، أو يقر بحتمية الاستسلام لها على أقل تقدير، مما يجعل من المقاومة ضربا من المستحيل، فضلا عن تقديمها للرأي العام على أنها الصورة الفضلى لما يمكن أن يكون عليه الكيان البشري، وأنها خلاصة للتجربة الإنسانية على مر العصور، وذلك عبر ضخ كميات هائلة من سلع الرفاه، ودغدغة الغرائز بفيض لا ينتهي من أشكال اللذة الحسية التي تتجدد كل يوم، مما يهدد بتحويل الإنسان إلى كائن شهواني لا يروم إلا قضاء المزيد من الشهوة بشتى الوسائل.
وبما أن الإنسان الذي أكرمه الخالق بعمارة الأرض وسخر له أسبابها، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا الانحطاط الفكري والأخلاقي الذي انتهى إليه، فإنه هو المسؤول أيضا عن تغيير هذا الواقع، والبحث عن السبيل الذي ينجو به من كماشة الحتمية التي أبدعها، وليكن ذلك من منطلق المسلـَمة التي لا مفر منها: وهي أنك أيها الإنسان لن تعيش إلا عمرا واحدا.. فانظر ما أنت فاعل فيه!